الثلاثاء، 10 يناير 2012

فنجان قهوة

أجمل ما في صباحي.... فنجان قهوة سوداء.... يفتح أفق يومي برائحته المميزة. أرتشفه بهدوء وبتلذذ. وكلما ارتشفت رشفة كانت التالية ألذ منها... ورغبت في أن لا ينتهي فنجاني.
للقهوة التركية حكاية طريفة، كبرتُ فيها ومعها . حكاية قهوتي بدأت مع سنوات الدراسة الجامعية. فقد كنت قبل ذلك لا أستسيغ شربها عندما كانت أمي  تعدها لأبي. لكنني كنت أعشق شذاها الذي كان ينتشر في أنحاء المنزل.
في يوم دراسي جامعي، جلست مع صديقاتي في إحدى الكافتريات. وقامت كل واحدة بطلب فنجان من القهوة التركية. وكان من المتعارف عليه بيننا أن من لا تشرب القهوة لا تكون ناضجة. فماذا أفعل؟ أأطلب فنجانا مثلهن، أم أكون صغيرة في نظرهن؟ طبعا قررت أن لا أكون موضوعا لسخريتهن طوال أيام الفصل الدراسي وقلت لنفسي جربي... ما الضير؟
وعند وصول الطلبات، قامت كل واحدة بالهجوم الشرس على فنجان قهوتها، وقمن بإصدار أصوات التلذذ والاستمتاع بطعمها العجيب. نظرن إلي وكلهن دهشة لمَ لمْ أبدأ بالشرب بعد. فقلت لهن إني أحب شربها باردة قليلا. فتمتمن بأصوات الإعجاب والتأييد. مما أثار دهشتي. الظاهر أن من علامات إدمان  القهوة الانتظار إلى أن تفتر قليلا! رب رمية من غير رام.
المهم مرت الثواني والدقائق ولم يعد في جعبتي سببا ولا حجة لتأجيل شربي لفنجاني. فاختلقت لهن قصة . أخبرتهن أنني أستطيع أن أقرأ لهن ما تخفيه فناجينهن من أسرار. سأكون قارئة الفنجان يا ولدي.
وما إن تفوهت بهذه الكلمات حتى انهالت الفناجين المقلوبة بالتدافع صوبي في محاولة لاحتلال المركز الأول. قلت لنفسي: جاء الفرج. أخذت أول فنجان وقمت بدراسة الخطوط والأشكال التي رسمتها القهوة. فبالنهاية أنا طالبة فنون جميلة، وأستطيع رؤية أشكال وصور، وتوظيف ذاكرتي البصرية في ذلك. قلت للأولى سوف تصلك رسالة من شخص تحبينه. على أيامنا لم تكن الهواتف النقالة قد خُلقت بعد. ولم تكن هناك وسائل للاتصال بين الأحبة سوى الورقة والقلم. إيههههه.... كانت أيام عز.
قلت لها أن عدة أمور حلوة سوف تحدث لها بعد إشارة أو ممكن إشارتين. فسألتني: ساعة ساعتين أم يوم يومين؟ فقلت لها: لا.. بل ساعة واحدة. ولا أدري من أين جاءتني هذه الثقة وهذه الشفافية.
وأثناء حديثي مع الصديقة قبل الأخيرة في القائمة، قامت أول واحدة بالصراخ والقفز للأعلى والأسفل. فقد مرت بالصدفة صديقتها التي تشترك معها في صندوق البريد وأحضرت لها رسالة. نعم كانت تلك الرسالة التي تنبأتُ بها. وما هي  إلا لحظات حتى قامت الثانية بالحلف أن ما قلته لها كان صحيحا. وكذلك الثالثة، والرابعة.
ما أصغر عقولكن... قلت في نفسي. لكنني أسهبت في التنجيم، وفي اختلاق القصص المرتبطة بالأشكال. وفي لحظة ضائعة... وجدتني وقد شربت فنجاني كاملا. كانت لحظة امتزجت فيها نشوة الانفعال مع خيالات عقلي الحالم. ووجدتني بعد فترة أطلب فنجانا آخر، وواصلت دعابتي القصصية مع صديقاتي حتى آخر واحدة.
نظرت صديقاتي بإعجاب وبتقدير لهذه الموهبة التي أملكها. وقمن بإخبار صديقاتهن بأنني أستطيع قراءة الفنجان. وما هي إلا لحظات حتى امتلأت الكافتيريا بالطالبات الاتي أردن معرفة ... حبيب القلب مستخبي في أنهي داهية.
وفي هذا الموقف، اضطررت أن أعتذر لهن بلباقة. وتذرعت لهن بأنني لا أستطيع قراءة أكثر من ستة فناجين وإلا فإن النبوءات لن تتحقق. فقامت صديقاتي بإبعاد القادمات الجدد، فيا حبيب ما بعدك حبيب.
كان هذا الموقف الطفولي هو النقطة الفاصلة التي جعلتني من عشاق القهوة. لا أدري كيف مضت سنواتي السابقة دون هذا الطعم الآسر. ولا أدري من أين تولدت لدي هذه القدرة على التأليف.
طبعا بعد فترة ونتيجة للالحاح والطلب المتزايد عليّ، اضطررت أن أعترف لصديقاتي بأنني كنت ألهو معهن، وبأنني لست منجمة ولا عالمة في هذا المجال. ولكن بقي سر منشأ هذه القصة بأكملها في طي الكتمان.
ولم يبق من هذه الذكرى سوى طعم أول فنجان قهوة لي، واستغفاراتي المتواصلة على قيامي باللهو في عالم التنجيم والخرافات.
ومن حينها.... صار فنجان القهوة التركية رفيق صباحي ورفيق مسائي. لا تحلو لمة العائلة إلا حوله، ولا يكتمل عطر ايامي إلا به.
فلتحيا القهوة ولتحيا رائحتها.....


@Dr_Sadoun

هناك تعليقان (2):

  1. اختي حبيبتي لا تحلو القهوه الا بوجودك

    ردحذف
    الردود
    1. ولا تحلو إلا من يدك. سلمتي يا حبيبتي

      حذف